في كثير من دروب العمر.. ادركت (بــ معرفة ضمنية) أن الله وضع في أرواحنا شيئا يشبه أداة الإلتقاط..
أن أرى / أسمع / أقرأ شخصا لأول مرة.. ودونما شعور أتعلق به تعلقا لا يشبه الإعجاب ولا الرغبة في التعامل.. شيء يتجاوز هذا إلى امتلاك مكمن بداخل الروح..
لا نجرؤ أحيانا على الإقتراب.. نقف حائرين.. متسائلين عن كنه هذا الشيء الذي أصبح أغرب من أن نتساءل عنه!
ترى أعيننا شيئا.. ويقرأ يقيننا الذي لا نتخطاه إطلاقا، شيء آخر..
ودونما أي شعور نتبع يقيننا..!
هذا النوع من الــ إختلاس الروحي لا يأتي جزافا.. ولا يزور كثير من الأشخاص.. هم ندرة.. وأنا احمد الله ان جعلني أعرف هذا الشعور..
وإن كان سببا لألم باقٍ طوال حياتي..
+_+_+_+
حسنا.. لن اطيل الحديث عن أولئك الأشخاص.. لكنني أرغب في الحديث عن امرأة قرأتها وأحببتها.. وشاء القدر ان يخطفها قبل أن اقترب منها أكثر..
هديل الحضيف.. ابنة الكاتب الكبير.. الدكتور محمد الحضيف..
تلك المرأة التي ما أفتأ كلما احتجت إلى بكاء يغسل روحي.. بكاء يشبه بكاء الأطفال في تحرره من أي منطق أو عقل.. بكاء يغوص في أعمق نقطة بالروح لينتزع منها الألم ويقطر دماء هذه الروح عبر العيون؛ أذهب إلى رثاءات والدها فيها..
أو أقرأ لها شيئا..
لا أعرف لماذا تنتفض روحي كلما قرأت لهذه المرأة حرفا.. أبكي كثيرا.. أبكي فقدان روح كــ هذه في أرض عطشى لها..
مر الآن وقت طويل على وفاتها.. ليس طويلا جدا.. لكنه على أرواح من فقدوها طويل حتما.. فهم يتألمون لكل لحظة يعيشونها فوق الأرض وهي في جوفها!!
في إحدى تلك الصدف التي يرسلها إلي الرب.. كنت أسير في أروقة الجامعة.. جال في خاطري سؤال.. ترى: أي شيء جعل هذه الهديل نقية كل هذا النقاء.. كيف أحبها الناس كل هذا الحب.. حقا إن في هذا لــ آية تحكي عن حب الله لــ بعض البشر.. فيطرح في قلوب الناس حبهم!
كنت أسير حينها لا شعوريا نحو مكتبة الجامعة بالدور الثاني (الشقري)
كــ عادتي حينما أصاب بالملل.. اتصفح الكتب.. انظر إلى أغلفتها.. قد أتجرأ إلى استئذان البائعة في أن أتخير إحدى هذه الكتب لــ أجلس على المقعد الخشبي المقابل للمكتبة.. وأقرأ منه قليلا.. كــ نوع من الإعارة المختلسة..
كنت أنظر بعينان باردتان إلى أرفف الكتب.. لتقفا فجأة على أحد الرفوف.. أعاود النظر.. رباه!!
كتاب لــ هديل..
متى.. وكيف؟؟
لا شعوريا.. امتدت يدي تحمل رعشة ألم.. إلى الكتاب
لأفتح صفحته الأولى.. عرفت حينها ان والدها قد قام بــ جمع الكثير من حديثها وتدويناتها في هذا الكتاب.. كــ نوع من التخليد
صادفتني أول مقطوعة في مقدمة الكتاب:
"
سُئِلت هديل مرة:
"ماذا تظنين، سوف يحدث لمدونتك.. حين تموتين.."؟
فأجابت:
"ستُنسى..!.
ها هو عام ثانٍ يمضي على رحيل صاحبة "باب الجنة" والباب ما زال مشرعا للجمال، و(الجنة) يتفيأ ظلالها العابرون.
لم تنس "باب الجنة"، وهديل استوطنت القلوب.
"
كانت بــ لسان والدها.. محمد الحضيف
بعد هذه الكلمات طفق يكتب عن ساعات انتظاره مع والدتها أمام غرفتها بالمشفى قبل وفاتها..
طفق يكتب عن مدى اتساع ألم فقدها في نفسه كلما مر عليه الزمن..
كتب وكتب.. ورغم ان كل تلك الكلمات حصرت في صفحة ونصف.. إلا أنني كنت أقرأ وكأنما تلك الصفحة والنصف هي كتاب بحجم الكون..
لم انتبه إلى نفسي كيف أنني وضعت حقيبتي على الأرض.. وجلست بجوارها - حقيبتي- اقرأ وأنا ابكي بصوت مرتفع.. ذاك البكاء الذي وصفته في السطور أعلاه..
البكاء الذي يشبه خطفة من منجم النار المحرقة.. الذي يغوص بنا حتى نفقد رصانتنا وما نحاول ان نحمي به صروح شخصياتنا أمام المجتمع..
لم انتبه إلى نفسي وأنا اردد.. رحمك الله.. رحمك الله يا هديل.. كم أنني أشعر بــ فقدانك وكأنما عرفتك كل العمر.. وأنا لم أعرف منك سوى سطورك.. وتلك الروح الطيبة التي كانت تشع حتى اتسع في مدى الكون نورها..
لم انتبه إلى مشرفة البيع في المكتبة وهي تنظر إلي باستغراب.. وتنتظر حتى أستفيق من حالة الألم التي تعتريني..
نهضت في خجل.. نفضت غبار الأرض عن (تنورتي) السوداء..
وبدون تعليق.. بصوت مختنق بالبكاء.. سألتها عن سعره.. دفعته لها.. وخطفت الكتاب وخرجت من المكتبة راكضة إلى أبعد بقعة عن البشر تحويها جامعة أم القرى..
لم أجرؤ على قراءة الكتاب مجددا هناك.. بقيت واقفة انظر إلى غلافه.. ودمعة معلقة في عيني.. لا هي تنساب فــ تفرغ جزءا من دماء الروح...
ولا هي تجف فــ تهدأ نفسي..
+_+_+_+
الآن.. وأنا أكتب هذه السطور.. يرقد الكتاب في وداعة بــ جواري..
أمرر يدي على غلافه فــ تمر بي قشعريرة تجعلني أتراجع.. ثم اعود لأفتح أول الصفحات..
وما إن أقرأ سطور الدكتور محمد الحضيف حتى تعاودني حالة البكاء..
لا أدري متى سأجرؤ على قراءته..
لا أدري متى سأشعر بحاجة حارقة إلى الغوص في بكاء طفولي عالٍ.. فأركض إلى كتابها.. كتاب (قارع باب الجنة)..
لــ هديل الحضيف..
رحمها الله .. وفتح لها (باب الجنة) على اتساعه.. ليضم روحها النقية..
تلك الروح التي لن اتوقف عن الدعاء لها.. بألم الفقد.. واشتياق الحرف..
ولذويها بالصبر والسلوان.. واللقاء بها في واسع الجنان..
+_+_+_+
لـــ من لم يقرع باب الجنة لــ هديل..
هناك تعليق واحد:
الى جنة الفردوس العلى ...
إرسال تعليق